خارطة مأدبا تستجدي لفتة من العرب

خارطة مأدبا تستجدي لفتة من العرب

شغف غربي عمره مئة سنة وأرشيف في «السوربون» و«الكونغرس»مأدبا: أسامة العيسة

لا يملك موظف الاستقبال في كنيسة «السان جورج» في مدينة مأدبا، 30 كلم جنوب العاصمة الأردنية عمان، وقتا للثرثرة مع الزائرين، ويجيب باقتضاب وتبرم على استفساراتهم، كشخص اعتاد على ما يبدو سماع نفس الأسئلة والاستفسارات ومعظمها حول خريطة الفسيفساء الشهيرة الموجودة داخل الكنيسة التي تعرف اكثر باسم «كنيسة الخريطة». ويطلب الموظف من الزائر دفع رسوم الدخول، ويخاطبه بصوت ملول: «ادخل من هنا وستجد الخريطة أمامك على أرضية الكنيسة». وتعتبر الخريطة التي يأتي الزائرون من مختلف أنحاء المعمورة لرؤيتها، اقدم خريطة فسيفسائية في العالم، وربما الأهم أنها اقدم خريطة للأرض المقدسة.

اكتسبت الخريطة الفسيفسائية شهرة عالمية، منذ اكتشفاها قبل اكثر من قرن. وهي تثير فضول المهتمين والباحثين، الذين ما زال كثير منهم يجري عليها دراسات، تنشر في كتب بلغات عديدة، ليس بينها العربية، منها ما يباع على مدخل الكنيسة، لزوارها وغالبيتهم من الأجانب. ويعود تاريخ الخريطة إلى نحو عام 550م، وترتبط بشكل وثيق بفترة من تاريخ مأدبا التي يوجد فيها جبل نبو المطل على فلسطين. واصبح من المؤكد انه في الفترة التي صنعت فيها الخريطة، عاشت طائفة مسيحية مهمة في المدينة الأردنية وما حولها، والتي تشكل جزءا من ارض مؤاب وتعتبر امتدادا للبيداء على جانبي نهر الأردن. ومن اشهر معالم مأدبا الآن جبل نبو، المطل على فلسطين، والكنائس التي تتميز بأرضياتها الفسيفسائية التي تمثل ما وصل إليه تطور فنون الفسيفساء بين القرنين الثاني والسادس الميلاديين.

وما زالت بيوت مأدبا، تخفي تحتها الكثير من الأرضيات الفسيفسائية، بينما تستمر عمليات البحث والحفريات في المدينة ومحيطها وتكشف في كل مرة عن الكثير، ولكن تبقى الخريطة الفسيفسائية هي الأشهر.

[size=16]وتمتد هذه الخريطة على جزء من أرضية الكنيسة، ويقدر حجمها بنحو 15.75 في 5.60م عرضا وطولا، وتشكل مدينة القدس مركزا لها. وتظهر فيها مواقع في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان ومصر، ويمكن تتبع مواقع صور وصيدا وبعلبك، إلى الجليل الفلسطيني، ووادي الأردن، والشاطئ الشرقي للبحر الميت وغور الأردن، ونابلس، وبيت لحم، ومواقع على البحر الأبيض المتوسط، واخرى في دلتا النيل مثل دمنهور، وكذلك سيناء والإسكندرية وغيرها.

والمثير في الخريطة هو تفصيلاتها، مثل تضمنها لبلدات تعتبر الان صغيرة، وكذلك اختلافها عن الخرائط المعاصرة باعتماد صانعيها على الرسوم وتثبيت التخطيطات المعمارية للمواقع، بما يشبه فن الغرافيك الحديث، مثلما هو الحال فيما يتعلق بمدينة القدس، حيث يمكن تتبع شوارعها على الخريطة من مدخلها الشمالي المعروف بباب العمود، ويعطي ذلك فكرة عن مخطط المدينة في الفترة التي وضعت فيها الخريطة، ومقارنته بوضع المدينة الحالي. وهو ما يمكن فعله أيضا بالنسبة لمواقع أخرى، الأمر الذي يشكل مرجعا مهما للباحثين المهتمين.

ورصد الأب ميشيل بيشريللو، الذي أدار عمليات ترميم وحفريات أثرية في مأدبا، 157 موقعا على الخريطة، استنادا إلى الدراسات التي وضعت، منذ عام 1896، عندما شاع خبر اكتشافها، بعد البدء بتشييد كنيسة أرثوذxxxxxxxية في موقع كنيسة قديمة.

وسافر الشماس كيلوفاس كيكيليدس من القدس إلى مأدبا، ورسم الخريطة وسجل ملاحظات، وعاد بها إلى القدس، وطبع كل ذلك في كتيب من 26 صفحة صدر في مارس 1997 ومنذ ذلك التاريخ توالت الدراسات حول الخريطة، ووضعت عنها المخططات والرسوم والقراءات العديدة، وقدمت عنها تفسيرات واجتهادات ويتتبع الأب بيشريللو، في دراسة له عن الخريطة ما يمكن تسميته تطور الرؤى حولها منذ اكتشافها. وكان نشر الدراسات عنها يتوالى في أنحاء مختلفة من العالم، ويشير بيشريللو مثلا إلى أن نشر صور ملونة عن الخريطة عام 1906 في لايبزغ كان مهما في تطوير قراءاتها.

ويقول بان تطويرا آخر حول النظرة للخريطة حدث عام 1965، بمناسبة عمليات ترميم لها، نفذتها مجموعة من العلماء، وكذلك عام 1983، نتيجة عمل جماعي طويل من قبل اثري «معهد الفرنسسيكان للآثار» بالقدس.

ويرى بيشريللو أن المشكلة الرئيسية التي تثيرها دائما دراسة الخريطة، يتعلق بامتدادها، ويمكن أن يلاحظ أي زائر، بأنها غير كاملة، واجزاء منها تعرضت للتخريب، وارتباط اكتشافها، بالكنسية القديمة التي وجدت بها، حيث توجد اختلافات في تقدير قياسات هذه الكنيسة وأقسامها.

ومن خلال تتبع تاريخ الدراسات عن الخريطة يتضح غياب العلماء العرب عن الموضوع، وكأن الأمر لا يعنيهم. ويقول الأثرى الفلسطيني د. إبراهيم الفني ، بأنه دعا لدراسة الخريطة بالتعاون مع مؤسسة فلسطينية، ولكنه لم يجد أي صدى، فعمل على دراسة الخريطة مدة عشر سنوات في محاولة لتحليل رموزها خاصة تلك التي تخص مدنا فلسطينية مثل القدس ونابلس.

ويقول بأن أهمية خريطة مأدبا انها «الوحيدة التي ظهرت وبها من المعلومات الجغرافية الطوبوغرافية عن فلسطين القديمة وباقي الاراضي المقدسة الكثير». ويضيف «أين نحن من هذا الأثر الهندسي؟، ولماذا لا ندرسه؟ وأين هم علماء الآثار الذين يريدون الاهتمام بتراث هذه الأرض؟».

ويقول الفني في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «ان الخريطة قدمت شرحا مهماً عن المدن المهمة في فلسطين وغيرها، ومعلومات عن الطبيعة والجبال والأنهار، والبحار، وكذلك عن النقل البحري والصيد والزراعة وغيرها». ويضيف «وقدمت الخريطة رسومات ولوحات، تشكل قمة الإبداع، لكن الباحثين استرسلوا في قراءة النمط الجغرافي ولم يربطوا بما فيه الكفاية بين تلك اللوحات والخريطة».

ولكن ماذا تمثل هذه اللوحات؟ يجيب الفني «تمثل الأنماط الرومانية التي كانت قائمة بالمدن التي تشملها الخريطة، خصوصا في فلسطين والأردن، ويمكن من خلال دراسة الأبنية الكبيرة التي تظهرها الخريطة، معرفة أنها تمثل المنشآت المهمة كالمعابد والكنائس وحتى الملاعب».

ويضيف «نستطيع تحديد مواقع منشآت مهمة على الخريطة، مثل كنيسة القيامة بالقدس، وسجن النبي يحيى في سبسطية، ومواقع رومانية في قيسارية وبئر يعقوب في نابلس وغيرها».

وتوجد الوثائق الكاملة عن الخريطة في «مكتبة السوربون»، وفي «مكتبة الكونغرس» في واشنطن، ولدى «معهد الفرنسيسكان للآثار» بالقدس أرشيف مهم عنها. ويمكن الإشارة هنا إلى أن الخريطة كانت دائما عرضة للقراءات الآيديولوجية المتعلقة بفهم الدارس لجغرافية الكتاب المقدس، وآخرها الدراسة التي وضعتها العالمة الxxxxxة، من اصل ألماني ميخائيلي التي نشرت كتابا جامعا عن الخريطة عام 1991.

ويقول الفني «ما يمكن تلخيصه عن هذه الخريطة هو وصفها بأنها معجزة بمضمونها، بربطها لعدة أقطار بطبيعتها وجبالها وسهولها ومدنها وانهارها وبحارها». ويحث الفني العلماء العرب على الاهتمام اكثر بهذه الخريطة وتقديم رؤاهم لها، بعد أن فعل علماء الغرب وما زالوا يفعلون ذلك.

الجزء من فسيفساء "مادبا" الذي يصور القدس

خارطة مأدبا تستجدي لفتة من العرب 097867_2009_07_16_11_28_30.image2

مخطط لمدينة القدس كما أعده جغرافيين ألمانيين عام /1572/

جزء من فسيفساء "طيبة الإمام" في أعلاها تمثيل رمزي للقدس

اشكرك اخي

موضوع جميل